يوم السبت 24ربيع الآخر1444هـ/19نونبر2022م.بقاعة المحاضرات بقصر البلدية مدينة مشرع بلقصيري. بعد
الحمد والثناء على الله جل جلاله والصلاة والسلام على رسول الله و آله وصحبه...
أمَّا بعد
،
أيها السادة الكرام
فإنَّ ندوتنا اليوم حول موضوع لا تخفى أهميته على أي مغربي حر أصيل... فمن منَّا لا يشعر بهذه المشاعر التي تُلامس الروح والقلب عند ذكر كلمة الاستقلال والحرية، ومن منّا لا يشعر بالفخر والاعتزاز عند عودة أبي الأمة المشمول بعفو الله ورحمته جلالة الملك محمد الخامس القائل: رجعنا
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.. ليدفع برُقي وطنه وارتفاع شأنه بين الأمم، ومن منَّا لا يشعر بالضيق والحزن عند ذكر الاستعمار وما قام به من سوء وشر للوطن وللمواطنين، وباختصار أيها السادة لا يشكرُ الله من لا
يشكرُ الناس، وشكرنا للأجداد الشهداء،
و المقاومين الأبطال، الدعاء
بالرحمة والمغفرة.. والشكر بعد الله موصول للمجلس العلمي المحلي بإقليم سيدي قاسم على اهتمامه لقضايا أمته وعنايته وإتاحته هذه الفرصة لنا بأن ندلي فيها بدلونا، وخاصة لممثله في هذه الجهة الأستاذ الفاضل سيدي عبد اللطيف بومهدي عضو المجلس العلمي،
والذي يمثله أحسن
تمثيل.. والمسير لهذا اللقاء بحنكة و مهارة،
ومنذ أن عرفته
يتفانى في عمله ولا يعرف الملل ولا يدخر جهدا لإنجاح مثل هذه المهام التي شرف بها،
واللهَ أسأل أن يوفقه في مهامه.. وكذلك أشكر هذا الحضور الكريم والمجلس البلدي على تهيئته المكان والمعدات كالصوتيات والإنارة...إلخ.
أيها السادة، عنوان ندوتنا هذه والذي يدور موضوعه إن شاء الله حول قضية وطنية
دروس مستفادة من ذكرى الأمجاد في أعياد الاستقلال
و هو المحور الذي تتمحور حوله الكثير من تفاصيل الحدث،
التي تحمل في
طيَّاتها الكثير من مشاعر الانتماء والوطنية،
لأنَّ وطن الإنسان هو أحد أغلى الأمور التي يملكها وأكثرها قيمة، وفي محبة الوطن تحديد لكيان الإنسان وهويته..،
أيها السادة
الكرام، إن جل المناسبات الدينية والوطنية تمر بنا ولا نعي ما تحمله من أسرار وعبر وفوائد.. بل إن معظمَها لا يعني بالنسبة لكثير منا شيئا يذكر.. والسبب أننا لا ننظر للتاريخ بالنظرة التي أمرنا الله تعالى أن ننظر إليه.. والإنسان مغروز فيه ومغروز على أمور عديدة، من تلك الأمور أن يحبَّ المرء ماله وولده وأقاربه وأصدقاءه، ومن هذه الأمور كذلك حبّ الإنسان لموطنه الذي عاش فيه وترعرع في أكنافه، وهذا الأمر يجده كل إنسان في نفسه، فحب الوطن غريزة متأصّلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحنّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجِم، ويغضب له إذا انتُقص.
ومهما اضطر
الإنسان إلى ترك وطنه فإنّ حنين الرجوع إليه يبقى معلّقًا في ذاكرته لا يفارقه، ولذا يقول الأصمعي: ثلاث
خصال في ثلاثة أصناف من الحيوانات: الإبل
تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيدًا، والطير إلى وكره وإن كان موضعه مُجدَبًا، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعًا. و تأتي ذكرى
عيد الاستقلال
المجيد بعد
مرور حقبة من الدهر انتصر فيها المغاربة قاطبة - وفي مقدمتهم فقيد العروبة والإسلام جلالة الملك محمد الخامس والأسرة العلوية الشريفة- على المستعمر الفرنسي والإسباني، وهزموهم هزيمة شنعاء، وطردوهم شر طَردة.
قال كثير من
علماء القرآن كابن عطية ومن وافقه: إن
القرآن يشتمل على ثلاثة أمور:
1 - توحيد وعقائد.
2 - توجيهات وأحكام. 3 - وقصص ومواعظ، أو أخبار عن الأمم الماضية وقصصهم مع أنبيائهم، ويدخل في الذي نعيش أجواءه الآن الأمر الثالث.. يقول الله جل جلاله) : اَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِے اِ۬لَارْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٞ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوَ آذَانٞ يَسْمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَي اَ۬لَابْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَي اَ۬لْقُلُوبُ اُ۬لتِے فِے اِ۬لصُّدُورِۖ) (46 سورة الحج( وهذا من خصائص القرءان الكريم أنه يقص على الرسول الأعظم وأمته المستخلفة في الأرض أحسن القصص،
دفعا إلى أخذ
الدروس من جهة، وضربا للمثل بواقع التاريخ من جهة أخرى، وكذلك من خلال تدبرك للقران الكريم تجده يدعوك إلى دراسة الحضارات البائدة وعلل فنائها، حتى يتجنب الجيل الحاضر مواطن الزلل التي هوت بالأولين..، وكم
تَكْشِف مطالعةُ التاريخ من غرائب: مثقلات يلدن كل عجيب... والليالي من الزمان حبالى.
هذا هو
القرآن الكريم يؤكد على الاعتبار بقصص السابقين وسير الأولين، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (111 من سورة يوسف
.قال تعالى: (قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 137) (من سورة آل
عمران .
ولأهمية
دراسة التاريخ أيضا ما نلمسه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتاريخ هذه الأمة. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهتمامه بالتاريخ والسير،
لا ينسى أيام
طفولته وشبابه وهو في مكة المكرمة،
وله فيها ذكريات
عزيزة، ومن أبرزها حِلْف الفضول وما يتضمنه من مكارم الشيم وعظيم الأخلاق ومن هذه الذكريات التي ملكت عليه قلبه، حتى أنه قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بعد أن أكرمه الله بالنبوة والرسالة: (لقد شهدت
مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان، ما أُحِبُّ أن أنكُثَه وأنَّ لي حُمْرُ النَّعَمِ.. حلف الفضول الذي تم بعد حرب الفِجار بأربعة أشهر،
وكان زين
العابدين بن علي بن الحسين يقول ): كنا
نعلَّمُ مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه كما نعلَّمُ السورةَ من القرآن).وعليه فإنك لن تجد مرحلة تعيش فيها الأمة الإسلامية صراعاً مع خصومها إلا وجدت لها أصلاً في تلك السيرة العطرة، لذلك كانوا يعلمون المغازي كما يعلمون القرآن. والمقصود أنَّ علي بن الحسين يقرر في هذه العبارة الموجزة أنهم كانوا يتلقون ضمن تعليمهم: مغازي الرسول صلى الله عليه و سلم ، وأنَّ
تعلمهم لها كان موازياً في الأهمية لتعلم القرآن الكريم، وما ذلك بنقص في استشعار أهمية القرآن، وإنما هو منهجية تربوية في تعليم العلوم وغرس القيم. «وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص : (كان أبي
يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه، ويقول: يا بَنِّي
هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها. وأيضا
من فوائد دراسة التاريخ،
قال ابن الجوزي : رأيت الاشتغال
بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يُمزج بالرقائق والنظر في سيرة السلف الصالح، قال
الجنيد رحمه الله :
الحكايات جند من جند الله عز وجل، يقوي بها إيمانَ المريدين. وكان
أبو حنيفة رحمه الله يقول : الحكايات
عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه لأنها آداب القوم.
وبناء على هذا وذاك قال المتأخرون : إن
الذي لا يقرأ التاريخ يكرر أخطاءه!..
اقرؤوا التاريخ
إذ فيه العبر ** ضل قوم ليس يدرون الخبر**
فهو يمثل
مجدَ الأمة الذي يجب أن تستحضره الناشئة في وجدانها، وشرفَها الذي يجب أن تحافظ عليه مهما تباعد الزمان .وهو
الأمر الذي ينبغي أنْ يكون عليه شباب الإسلام عامة برغم المحن والفتن والبلايا؛ وخاصة في هذه المملكة المغربية أدام الله أمنها واستقرارها.
***العناية بتاريخنا
فدراسة التاريخ
العام وتتبعُ آيات الله في الآفاق وتدبرُ أحوال الأمم: كيف تقوم وكيف تنهار؟ وكيف تتقلب بين ازدهار وانحدار؟ والإنسان مرتبط بتاريخه القديم والحديث، لا يعيش الحياة الطيبة بدون تاريخه، إذ البلاد بدون التاريخ هيكل بدون روح وسيارة بدون محرك،.. فبالرجوع إلى التاريخ نتفادى الوقوع في الأخطاء مرتين، ومبدأ المسلم يبينه لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول : لا يُلْدَغ المؤمن من جحر مرتين. فالإنسان
الذي لا علم له بتاريخ بلاده، ولا وعي له بمغزى الأحداث التي وقعت فيه، قد يلدغ من جحر مرارا وتكرارا.. وفتح الأعين على الدنيا المائجة بالأحداث الهائلة دون تفكير أو فقه أو اعتبار فهذا هو العمى والظلام، وهذا ما لا يليق بالمؤمن.. والذي يجب أن نعقِله، أن حياتنا ليست سدى ! وأن الله تعالى أجل من أن يجعلها كذلك.. وإذا انتفعنا بمرور الزمن على خير وجه، سجلنا لأنفسنا خلودا لا يناوشه الزمن بهرم ولا بلى عند الرفيق الأعلى... نقول هذا الكلام، ونحن نرى أن جل المغاربة لا يعتبرون من تاريخهم بل لا يعرفون الشيء الكثير عنه -إلا من رحم الله – وهذا في الحقيقة ينبئ عن خلل في التقدير وقصور في الفهم...وأكثر من ذلك هناك من يكره الحديث عن تاريخ بلاده وأصبحت عنده عقدة ولا يحب أن يسمع الحديث عن مناسبة وطنية أو شيء من هذا القبيل، وحتى من بعض الخطباء غفر الله لهم...حساسية.. نفور..عقدة..الجهل بمفهوم رمزية العلم والراية...وهذا الموقف في الحقيقة يقدم خدمة بالمجان للمستعمر الذي نفسه يكره الحديث عما فعله من أذى ومن ضرر بالمستعمرات..
***ما هو الاستعمار؟
فالاستعمار أيها
السادة في الاصطلاح العالمي اليوم فهو مرادف للقتل والتشريد والنهب والسرقة والاستغلال واغتصاب النساء وتعذيب الرجال بالأعمال الشاقة والسجون والمنافي، واختصارا فالاستعمار هو: ارتكاب
كل الجرائم المحرمة دينيا ودوليا، ولهذا سماه البعض الاستخراب؛ ومن الغريب أن يتساهل بعض المستغربين فيتساءل: هل الاستعمار نقمة؟ وفي الحقيقة لا يقول بذلك إلا من لا يعترف بنعمة الحرية والاستقلال، ولا يعترف بنعمة الاستقلال من لا يعرف نقمة الاستعمار؛.. ويروى عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال"إنما
تُنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" ويقول هذا
عمر الذي عاش
الجاهلية بشركها وظلمها وظلامها؛ كما عاش أيضا الشريعة الإسلامية بسماحتها ويسرها ونورها وهديها؛ صحيح لا يعرف الإسلام إلا من عرف الجاهلية؛ لأن الشيء يعرف بضده كما يقال، ويقاس على هذا أيها السادة ويقال اليوم : إنما
تنقض عرى الاستقلال عروة عروة، إذا نشأ في الاستقلال من لا يعرف الاستعمار؛ فالاستعمار -مهما فعل - لا يعدو أن يكون نقمة؛ بل أكبر نقمة على الأمم والشعوب، لا يرضى به ولا يحن له – ويشتاق وتتوق نفسه إليه- إلا من ألف المذلة والمهانة من الخونة والمنافقين المدسوسين، ولا يقبل به إلا من لا قيمة عنده للحرية والشرف والديانة. ونقمة الاستعمار تتجلى في أمرين يشكلان أساس أهداف الاستعمار في بلاد المسلمين، أولا: سرقة ثروات البلاد وهي النقمة المادية،
وثانيا إفساد
أخلاق الدين وتغيير الهوية وهو النقمة المعنوية،
وهي نفس الأهداف
التي شُنَّتْ من أجلها الحروبُ الصليبية على بلاد المسلمين،
***لماذا نحتفل بعيد الاستقلال في المغرب؟
نحيي هذه
الذكرى من أجل تعزيز الروح الوطنية والدينية لدى أبناء الشعب المغربي والعرش العلوي المجيد،
والقيام بتذكر
تضحيات الآباء والأجداد. الاحتفال بالأعياد الوطنية دافعه هو الشعور بالعزة والأنفة والتقديس للحرية المنضبطة بالشرع،
وشمر للعزائم، وتوجيهها إلى
الأعمال الصالحة المرضية،
وذلك للنهوض بالأمة
في جميع النواحي التي تتوقف عليها في هذه الحياة،
إن ذكرى الاستقلال
والحرية أيها السادة ليذكرنا بتلك الأيام المظلمة التي قطعتها بلادنا في ظل الاحتلال والاستعباد والظلم والفساد،
قد قاسينا فيها
الويل وذقنا فيها شديد الذل والهوان،
احتلالًا استغلته
السلطات الفرنسية والإسبانية للتنكيل بالمغاربة والتفنن في قتلهم والنيل من كرامتهم ونهب ثروات بلادهم الكثيرة. فليتذكر المغربي الحر الأصيل هذا ولا ينساه ما لحق المغاربة من مآس إنسانية عديدة إبان حقبة الاستعمار التي دامت نحو 44 سنة. لكن الله تعالى الرؤوف بعباده الرحيم بخلقه قد هيأ لهذه الأمة الكريمة من أبنائها الأبرار وفلذات أكبادها الأطهار من يأخذ بيدها إلى شاطئ السلامة والنجدة حيث هبوا لنصرتها والدفاع عنها فقدموا أرواحهم في سبيل حريتها واستقلالها وكان على رأس الجميع وفي مقدمتهم المشمول برحمة الله السلطان المجاهد الملك محمد الخامس ورفيقه في الدرب ولي عهده آنذاك المغفور له بإذن الله الحسن الثاني فرفع عنا كابوس الاستعمار وكُدت-كد: نزعه
بيده- صروحُ الظلم والطغيان وأعيدت للبلاد حريتها واستقلالها،
والإنسان ما
أسعده بالحرية،
فقد لا يعرف
قيمتها إلا من فقدها وذاق ألم حرمانها. إذا كان لا بد من التعلم من التاريخ فإن هذا الحدث نتعلم
منه :
- أنه
ذكرى بما ترمز إليه من التلاحم القائم بين العرش والشعب، والإخلاص والوفاء، وذكرى الافتخار بالتقاليد والأمجاد، وذكرى الوحدة المتواصلة بين الراعي والرعية، القائمة على الاعتصام بحبل الله المتين، والتمسك بدينه القويم، مصداقا لقوله تعالى: (واعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا).
- نتعلم
منه أن احتفال المغاربة بهذه الذكرى لهو مناسبة لإذكاء روح التعاون والتضامن والإخاء، ومناسبة لتقوية أواصر المودة والتلاحم القائم بين العرش والشعب، ومناسبة لأخذ العبر والدروس من الماضي للأجل العمل في الحاضر وبناء المستقبل، تجسيدا لآمال المواطنين وأمانيهم، للسير قدما بهذا البلد نحو التقدم والرقي والازدهار، في ظل الثوابت والمقدسات، تحت القيادة الصالحة، التي قيضها الله لهذا الوطن العزيز،
المتمثلة في
أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله ونصره.
- نتعلم
أيضا أن استقلال المغرب لا زال لم يكتمل ما دام سبتة و مليلية محتلتين، وكيف يتحقق لنا ذلك مع الاحتلال الظالم لمدينة سبتة التاريخية العلمية، مدينة القاضي عياض أحد الرجال السبع الذي دفنوا بمراكش، والذي قيل عنه لولا عياض ما عرف المغرب؟.
*** إن حب الوطن من الإيمان
لكن الذي
يجب أن يُعلم ويُفهم أن محبة الوطن لا تكون بالقول وكفى؛ بل تكون بالعمل الصالح من أجل رفعته وسؤدده فكل واحد منا مأمور بالعمل النافع تجاه وطنه كل في دائرة اختصاصه وعمله.
فالتاجر عمله
النافع لوطنه، أن يجلب البضائع التي تحتاجها بلاده وأن يسهل أمور مواطنيه ويجعل نُصْب عينيه مصلحة بلاده العليا فلا غش ولا تدليس ولا خداع ولا احتكار ولا جشع ولا طمع.
والفلاح عمله
النافع لوطنه أن يعمل جاهدا في حقله ومزرعته، محسنا أساليب فلاحته باتخاذ الوسائل العصرية كي يكثر الإنتاج فتستغني بلاده عن الاستيراد من الأمم الأجنبية والدول العدوة، ثم على الفلاح الكبير أن يعين الفلاح الصغير ويمد له العون و المساعدة،(
واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه) كما
يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
والصانع عمله
النافع لوطنه إتقانُ صَنعته وتحسينُ بضاعته حتى تستغني بضاعتُنا عن صناعة غيرنا من الأعداء الذين داسوا كرامتنا وسلبوا حريتنا مدة مديدة وغزوا أسواقنا ببضاعتهم المتقنة.
والموظف عمله
النافع لوطنه أن يسهل أمور الناس ولا يعقد مصالحهم حتى يَرشوه، بل عمله دوما في خدمة المواطنين.
والعالم عمله
النافع لوطنه تهديبُ النفوس وبيانُ طريق الخير والترغيبُ في سلوكها؛ وبيانُ طريق الشر والتنفيرُ من الوقوع فيها،
وذلك بالحكمة والموعظة
الحسنة والأسلوب اللبق اللين عملا بقول ربنا جل وعلا (ٱدْعُ
إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ ) وهكذا
دَوَالَيْك-مرة بعد أخرى- فلا يحتقرن أحد نفسه أو يقولُ إن وجودي وعدمي وعملي وعدمه لا يؤثر في حياة الأمة،
فذاك تفكير خاطئ
غير صحيح،
فالكل مطالب بالعمل
النافع تجاه وطنه وأمته حفاظا على حريتها وكرامتها وعزتها واستقلالها والجميع مسؤول في الدنيا وفي الأخرى،
عما قدمه لوطنه
فلا مناص من المسؤولية، لأي امرئ كيفما كان. أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كلُّكم
راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ.
فعلينا أن
نشكر الله على ما أعطانا من نعمة الأمن والاستقلال والحرية، فالشكر هو قيد للنعم واستدامُتها. وقد قيل: الشكر
قيد للموجود وجلب للمفقود،
فقد قال ربنا
جل وعلا(لَئِن
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ) وعلينا
أن نضيف إلى شكرنا لله تعالى على ما أعطى وأنعم وتفضل وألهم،
أن نضيف عملا
صالحا وإيمانا راسخا وتقوَى صادقةً حتى نحافظ على عزة وطننا وعلى وحدة ترابنا من كيد الكائدين ومكر الماكرين وطمع الطامعين، فلنعتز بوحدتنا كل الاعتزاز ولنشد عليها يد الضنين، ولنسر صفا واحدأ من وراء أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، وحذار حذار من أن نفرط في وحدتنا -بعد اليوم-، فهي رصيدنا
الأوحد وكنزنا الثمين،
وبذلك نتخطى جميع
العقبات، ونصل إلى تحقيق ما نطمح إليه من الأهداف والغايات، والإسلام ديننا الحنيف قد هدانا إلى النجدين وأرشدنا إلى الطريقين فما علينا كأمة مسلمة مؤمنة إلا أن نسلك طريق الفوز والفلاح،
ونجتنب سبيل
الخسران والطلاح. فالله تعالى مع المؤمنين المجاهدين المحسنين المتقين، قال تعالى (وَ ٱلَّذِينَ
جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ
ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ ( وقال
الله تعالى أيضا ) إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( وأن نضيف إلى شكرنا أيضا:
*** اجتناب الشائعات
إن الشائعاتِ
المغرضةَ، التي تبث عبر المنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي، والحملات الإعلامية »المحمومة«،
تحمل دوافع مُشينة في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي ضد عقيدة الأمة ومُثُلها، وضد أمن الأوطان واستقرارَها و ثوابتها وقيمها، إن الشائعات تتطور بتطور العصور، ويمثّل عصرُنا الحاضر عصراً ذهبياً لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطوّر التقنيات، وكثرة وسائل الاتصالات، التي مثلت العالم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية والمواقع والمنتديات إلى ما يسمى بالفيسبوك والتويتر والواتس آب وغيرِها كثير، كلها
على رغم مساهمتها في الخير إلا أن كثيراً منها يتولّى كِبرَ نشر الشائعات المغرضة المسعورة،
والتحريض على
ولاة أمورها، وتشويه صورة علمائها ورموزها و قدواتها والتقليل من منجزاتها ومكتسباتها.
»الشائعات
«ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تفعل أفاعيلها الخبيثة، وتفعل في غرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس، مركّزة على إشاعات الفوضى والفساد والخوف، وإثارة القلق والفزع والرعب والحروب والتخريب والتفجير، وزرع بذور الفتنة الطائفية، وإثارة البلبلة بين الناس، ولاسيما في أوقات الأحداث والأزمات، يوافق ذلك فراغ عند المتلقي وفضول، وبَطالة وكسل وخمول، فتسري الشائعة في الناس مسرى الهواء، وتهيج فيهم هيجان البحر المتلاطم.
وخطورة تلك
الشائعات والحملات تكمن في أنها سلاح جنوده مغفّلون أغرار، سحرتهم الشائعات ببريقها الخادع، فأصبحوا يرددونها كالبَّبغاوات من دون أن يدركوا أنهم أدوات يُستخدمون لمصالح أعدائهم، وهم لا يشعرون.
وكم كان للشائعات آثارها السلبية على الرأي العام، وصنّاع القرار في العالم، وكم كانت سبباً في أن يصرف الأعداء جبهة الأمة الداخلية عن مشكلاتها الحقيقية لإغراقها في مشكلات مفتعلة، علاوة على تمزيق الوحدة الإسلامية والوطنية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية .
الشائعات جريمة
ضد الوطن وأمن المجتمع، وصاحبها خائن مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته ووطنه، مثيرٌ للاضطراب والفوضى في الأمة، وقد يكون شراً من مروّج المخدرات، فكلاهما يستهدف الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى... والأمة مطالبة كلٌ في مجاله للقضاء على هذه الظاهرة التي لها آثارها المدمرة ضد أمن الأمة واستقرار المجتمع والوطن.
*** إنكار الفساد و
المفسدين
إن أكبر
عدو داخلي للأمة الإسلامية وأكبر خطر على حياتها، هو سلطان الفساد الذي أخذ يستشري في عروقها في كل مكان، فساد الأعراض، وفساد العقول، وفساد الذمم، وفساد القلوب، فالفساد بكافة أنواعه ومظاهره هو السوس الذي ينخر جسم الأمة الإسلامية، ويعوقها عن النهوض من كبوتها، وعن السير قدما إلى غاياتها، ومنذ تهاونت الأمة الإسلامية في ردع الفساد، والضرب على أيدي المفسدين، وتركت أبواب الفساد مفتوحة على مصراعيها، وأطلقت للشهوات العِنان دون أن تُحِد من سوْرتها أو تقف في وجهها، أُخذت على غرة من كل جانب، وتوالت عليها الفجائع والنوائب، لا سيما وأن كتاب الله الذي بين الهدى والشفاء قبح سيرة أهل الفساد حتى لا يرضى عنها المسلمون، فقال تعالى ) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ۗ وَٱللَّهُ
لَا يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ ( ودعا إلى استنكار أعمال المفسدين فقال تعالى ) ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ( وقد
استنكر كتابُ الله مداراةَ المفسدين والإغضاءَ عن الفساد، وحذر من عاقبة مداراتهم والتغاضي عنهم، فقال تعالى ) كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍۢ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ
مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ .(
إن الطريقة
العملية للإصلاح ولمحاربة الفساد والوقوف في وجه انتشاره هي أن يعتبر كل مسلم نفسه خليفة عن الله في دائرة عمله العام وفي دائرة عمله الخاص، فيحقق مراد الله منه بإصلاح ما فسد وتقويم مع اعوج، وكم يستطيع أن يفعل من الخير الأب بين أفراد عائلته، والمعلم بين تلاميذه، والأستاذ بين طلبته، والوصي بين من هم تحت ولايته، ورب المصنع والمتجر بين من يعملون في صناعته وتجارته، وهكذا في جميع الميادين، وبذلك نقوم بعمل جماعي نتعاون فيه جميعا على الحد من سَورة الفساد، ونعمل بجد وحزم على إنقاذ البلاد والعباد، روى البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : مَثَلُ
القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا. وقال
عليه الصلاه والسلام فيما رواه الترمذي عن عمرو بن عوف الْمُزْنِيّ : فطوبى
للغرباء، الذين يُصْلِحونَ ما أفْسَد الناس بعدي من سُنَّتي.
أيها السادة، وها
هو جلالة الملك محمد السادس حفظه الله يقود قطار الجهاد الأكبر جهاد التنمية وبناء الوطن بحكمته وحنكته، في مساعيه الحميدة وجولاته التنموية، يواصل بعزيمة الأبطال، مسيرة الإنجازات الإنمائية والإيمانية من أجل رفاهية شعبه وراحة رعيته، تجسيدا لآمال المواطنين وأمانيهم، للسير قدما بهذا البلد نحو التقدم والرقي والازدهار، في ظل الثوابت والمقدسات، وفي ظل المثل العليا والقيم الخالدة، فيساعد الفقراء، وينعش القرى، فينهض بهذا البلد في مختلف الميادين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والدعاء الصالح...تمت وبالخير عمت.
إرسال تعليق